قد يكون غريباً في مجتمعنا العربي والإسلامي أن يتصرف بعض الرجال ممن بلغوا الأربعين سنة أو زادوا عليها بعض التصرفات التي توحي بأنهم قد عادوا بالذاكرة للوراء كثيراً، وإستعادوا تلك التصرفات التي كانت تصدر منهم في أيام مراهقتهم سواء في مظهرهم الخارجي، أو تغير إهتماماتهم، أو قناعاتهم الذاتية ونظرتهم للأمور، وحكمهم عليها، بل وربما تصل إلى علاقاتهم الأسرية، والمجتمعية، وواجباتهم المهنية.
ويفضل بعض علماء النفس والإجتماع تسمية هذه الظواهر الخاصة بالرجال بإسم المراهقة المتأخرة أو الثانية، ويسميها البعض الآخر بأزمة منتصف العمر، وقد يتمادى بعضهم مسمياً إياها بسن اليأس للرجال.
واللافت للنظر أن سن الأربعين سن مميز في عمر الإنسان، إذ أنه الوحيد الذي ذكره الله في كتابه وجعله سناً لبلوغ العقل تمامه ورشده فقال تعالى: {حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وان أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك واني من المسلمين} [الأحقاف:15] يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره للآية الكريمة: ابن الأربعين لا يتغير غالباً عما يكون عليه، وفي الأربعين يتناهى العقل، ويكمل الفهم والحلم، وتقوى الحجة، وليس أدل على ذلك من أن الأنبياء بعثوا إلى أقوامهم بالرسالة بعد بلوغهم الأربعين.
ويرصد علماء النفس مظاهر كثيرة لتلك المرحلة في حياة من يمر بها، ويجدون قاسماً مشتركاً بين الرجال الذين يمرون بتلك الأزمة، فحينما ترى تغيراً واضحاً في سلوكيات رجل الأربعين على نحو متزايد بالإهتمام بمظهره، وإرتداء ملابس قد لا تتناسب مع سنه وذوقه السابق، وعادات مجتمعه، وربما يقضون أوقاتاً كثيرة في التعطر والتأنق بما لم يعهد عليهم من قبل.
وحينما ترى تغيراً جذرياً في الإهتمامات، والميول والأفكار، والميل إلى الإنعزال عن الأسرة، وقضاء الأوقات الطويلة في المحادثات على الإنترنت، أو في الأحاديث الهاتفية الغامضة، وحب الخروج من المنزل، وعدم الإهتمام بالمسئوليات المنزلية.
وحينما ترى كثرة إنتقاد الرجل لزوجته لطريقة ملبسها، أو لملل حديثها، أو عدم التفرغ له، ولمراعاة متطلباته وإحتياجاته، وربما ينفعل إنفعالات غير مبررة للتخلص من القيد الأسري.
وحينما يظهر التأفف من كل شئ، ويسخط على تاريخه، ويشعر بعدم الإنجاز في أي شئ مضى في محيط العمل، أو محيط الأسرة.
وحينما تجده يكرر عبارات أنه فاشل، أو غير سعيد في حياته العملية، وأنه لم يحقق أحلامه ولا طموحاته ولا آماله التي كان يسعى للوصول اليها كثيراً، ويقترن ذلك مع شعور ورد فعل سلبي، ويحدث كل ذلك فجأة بلا مقدمات، فلابد بعد ذلك كله أن تدرك أن هذا الرجل يمر بتلك الأزمة حتى وإن بدا كلامه منطقياً أو مقنعاً في طرح أفكاره، وفي شرح مدى معاناته -والتي قد تكون موجودة بالفعل، ومعه حق في بعضها- لأنها هي نفس الظروف التي كان يعيش فيها ويتعايش معها ولم تتغير.
ولك أن تتوقع وتحذر من أنه ربما يكون قد بدأ بالفعل في بعض التصرفات الطائشة التي يظن أنها ستخرجه من معاناته مثل: البحث عن زوجة صغيرة لمن يريد أن يصبغ تلك الممارسات بما هو مباح وجائز، أو إقامة العلاقات غير الشرعية لمن لا يبالون بالحلال والحرام، أو بتغير السلوك عامة للنقيض بما لا يتناسب مع شخصيته ومكانته وطباعه.
وهناك عوامل تساعد في تعميق هذا الاحساس عند الرجل في تلك الأزمة منها:
ـ أوان قطف الثمار: ففي الغالب تجد أن رجل الأربعين قد عمل لفترة طويلة في شبابه في عمل خاص سواء كان تجارياً، أو مهنياً، ونجده قد مرت على أغلبهم فترة المراهقة وهو مجتهد في الدراسة أو العمل، ونجده قد وصل إلى مرحلة قطف الثمار، وعندها يراجع نفسه، ويتذكر مراداته ورغباته السابقة، وتلح عليه، ويشعر بأنه ما حققها، ويتخيل أن السعادة كلها فيما فقد لا فيما حقق.
ـ إنخفاض هرمون الذكورة: ونجد أيضاً جانباً طبياً يمكن أن يبرر لنا وجود هذا الشعور فتذكر الأبحاث العلمية أن خمسة بالمائة فقط من الرجال يبحثون عن علاج لأعراض مرضية معينة ترتبط بهذه المرحلة العمرية، وكذلك فإن واحداً من كل عشرة أشخاص بين الأعمار 40 إلى 60 سنة يعاني من إنخفاض مستويات هرمون الذكورة التيستوستيرون في جسمه، وتتضاعف هذه النسبة في درجة الإنخفاض بعد عمر الستين ليصبح رجل من كل خمسه يعاني من نقص هذا الهرمون في الدم، وهذا الهرمون هو المسئول عن النشاط الجسمي والجنسي، وعندها يشعر ذلك الرجل بنوع من الإحباط، ومن ثم الإكتئاب، وبعدها يُسقط ذلك الشعور عنه باتهام المحيطين به بالتقصير في حقه.
ـ غياب الأحبة: وهناك جانب إجتماعي أيضاً وهو أن الرجل في سن الأربعين معرض لفقد عدد من المقربين إلى قلبه سواء بالموت، أو السفر، أو غير ذلك كالوالدين، والأصدقاء الذين يشكلون جانباً تفريغاً نفسياً له أهميته البالغة في إعادة التوازن النفسي إليهم، ويؤثر فقدهم سلباً عليه.
ـ الشعور بعدم الأهمية: قد يشعر رجل الأربعين كذلك بعدم الأهمية في الأسرة، أو بعدم الحاجة إليه إلا كمُوَرد للمال فقط، وخصوصاً من أبنائه الذين صاروا في مرحلة الشباب عندما يشق كل منهم طريقه بنفسه سواء في الدراسة، أو العمل، أو الزواج، ناهجاً نفس السبيل الحتمي لكل المخلوقات، فيشعر رجل الأربعين بحاجته للتجديد، وحاجته لذلك الشعور الطيب الذي يشعر به كل رجل مسئول وله رعية تنتظره، وتهتم بوجوده وغيابه، ولذا يحاول بطرق كثيرة أن يثبت لنفسه ولمن حوله أنه ما زال مرغوباً، فإن لم يكون في دائرة أسرته فليكن في أي مكان خارج هذه الأسرة.
ومن الغريب في أكثر من إستطلاع للرأي أن كثيرات من فتيات جيل الشابات لا يمانعن بل يفضلن الإقتران برجل في الأربعين عن مثيله الشاب العشريني، وذلك لخبرته العامة والخاصة، وربما لإستقراره المادي، وأيضاً لعدم وصوله الى سن الشيخوخة، فهم لا يزالون شبابا، ولأنه سيعاملها بطريقة مختلفة عن الشاب العشريني، لأنه سيظل حريصاً عليها، ملبياً لرغباتها وطلباتها، جاعلاً منها ملكة متوجة على عرش قلبه.
ويختلف الرجل في الأربعين عن المرأة في نفس السن، فمعظم النساء كنتيجة طبيعية للحمل المتكرر، والإرضاع، وتحمل مسئولية البيت، والذي يصاحبهم في معظم الأحيان ضيق مادي في بدايات الزواج، فتتغير هيئتهن العامة، ويقل إهتمامهن بمظهرهن فتبدو الواحدة منهن منهكة القوى وكأنها أشرفت على الستين، بينما معظم الرجال يزدادو في هذه الفترة شباباً ونضرة، فيشعر الرجل بأنه في حاجة الى تغييرات جذرية في حياته، وأول ما يلح عليه في تلك الفترة أن الزوجة قد تغيرت وليست هي الزوجة التي تزوجها منذ زمن، ويعود ثانية ليفكر بنفس الطريقة التي كان يفكر بها أثناء مراهقته.
ـ الفـــراغ: أما أهم العوامل التي تدفع الرجل للوقوع في تلك الأزمة فهو الفراغ، فمن الطبيعي في حياة الناس أن الإنسان كلما زاد عمره قلت ساعات عمله، فيزداد وقت الفراغ الذي يحتاج إلى ملئه بشئ نافع وإلا مُلئ بعكس ذلك كما حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ».
وتستطيع الزوجة المتيقظة أن تلتقط بسهولة تلك التغيرات، وتكون أول من يشعر بها، ولكنها قد لا تصرح ولا تظهر فهمها ومتابعتها وإدراكها الكامل بوجود تغير في حياة زوجها إلا بعد فترة تطول أو تقصر بحسب متانة علاقتهما، وتفاهمهما، وحرصها على سلامة البناء الداخلي لبيتها.
الكاتب: أ. يحيى البوليني.
المصدر: موقع المسلم.